كيف يُنتج العقل خلايا جديدة كل يوم؟

1. ميتا تحليلية (مقدمة تحليلية عن الاكتشاف العلمي) في بداية القرن الحادي والعشرين، انكسر أحد المسلمات الجوهرية في علم الأعصاب: أن الخلايا العصبية لا تتجدد بعد البلوغ. على مدى قرون، ساد الاعتقاد أن الدماغ البشري يشيخ بيولوجيًا دون قدرة على التعويض. لكن الدراسات التي نُشرت عام 1998، أبرزها تلك التي أجراها إريكسون وغولد، غيّرت المعادلة. باستخدام واسمات خلوية حساسة مثل BrdU، تم الكشف عن وجود خلايا عصبية جديدة تولد في منطقة الحُصين، حتى في أدمغة البالغين. هذا الاكتشاف لم يكن مجرد تعديل نظري، بل انقلاب مفاهيمي في فهمنا للدماغ. من عضو مغلق على مصيره إلى نظام ديناميكي قادر على التعافي، التعلم، وربما إعادة التشكيل الكامل. إنه تحول من “دماغ ثابت” إلى “دماغ يتطور في الزمن الحي”.

كيف يُنتج العقل خلايا جديدة كل يوم؟
ماذا يُنتج الدماغ خلايا جديدة؟ ومتى يتوقف عن ذلك


لفترة طويلة، ساد اعتقاد راسخ في علم الأعصاب أن الدماغ البشري لا ينتج خلايا عصبية جديدة بعد الولادة. هذا الافتراض كان قائمًا على ملاحظات تاريخية وجَّهت البحث العلمي لعدة عقود. غير أن هذا التصور بدأ يتصدع في تسعينيات القرن العشرين، حين نُشرت دراسة رائدة في مجلة Nature Medicine عام 1998، بقيادة الباحثة السويدية إليزابيث غولد، أكدت من خلال تجارب على الرئيسيات أن تكوين الخلايا العصبية يستمر في منطقة الحُصين حتى في دماغ البالغين.

تلك النتائج تبعتها دراسة أكثر حسمًا في عام 1998 أيضًا بقيادة بيتر إريكسون، استخدم فيها عينات دماغية من مرضى سرطان كانوا يخضعون لعلاج إشعاعي، وبيَّن من خلال تتبع خلايا موسومة بمركب "BrdU" أن خلايا عصبية جديدة تظهر بالفعل في التلفيف المسنن داخل الحُصين. هذه اللحظة شكّلت نقطة تحول معرفية في فهم الدماغ، وفتحت أبوابًا جديدة أمام العلم لفهم المرونة العصبية والوظائف النفسية من منظور ديناميكي.

هل يتجدد الدماغ فعلًا؟

لطالما اعتُبر الدماغ البشري جهازًا معقدًا ومحدودًا في قدرته على التجدد. ولعقود طويلة، ساد الاعتقاد بين العلماء أن الإنسان يُولد بعدد محدد من الخلايا العصبية، وأن أي تلف يصيب هذه الخلايا لا يمكن إصلاحه، وأن الدماغ يتجه تدريجيًا نحو التدهور مع التقدم في العمر. هذا التصور ظل راسخًا في الأوساط العلمية حتى نهايات القرن العشرين.

لكن في السنوات الأخيرة، حدث تحول جذري في فهمنا لقدرات الدماغ. أظهرت أبحاث متقدمة في علم الأعصاب أن الدماغ لا يتوقف تمامًا عن إنتاج الخلايا العصبية بعد الولادة، بل يحتفظ بقدرة محدودة على توليد خلايا جديدة طوال الحياة. هذه الظاهرة تُعرف باسم "تكوين الخلايا العصبية الجديدة" أو Neurogenesis، وتمثل ثورة في فهمنا لكيفية عمل الدماغ وتكيفه مع الظروف المتغيرة.

أحد أهم الاكتشافات في هذا السياق هو أن منطقة "الحُصين" (Hippocampus)، وهي جزء من الدماغ مسؤول عن الذاكرة والتعلم، تظل قادرة على إنتاج خلايا عصبية جديدة حتى في سن البلوغ وما بعده. هذه الخلايا لا تنشأ بشكل عشوائي، بل تلعب دورًا فعالًا في تعزيز القدرة المعرفية والتكيف مع التغيرات النفسية والبيئية. ما يجعل هذا الاكتشاف مثيرًا للاهتمام هو أن الدماغ لم يعد يُنظر إليه على أنه عضو ثابت، بل كيان حيّ يتغير ويتكيف ويُصلح نفسه إلى حد ما. وهذا يفتح آفاقًا واسعة لفهم أفضل للصحة النفسية، وعلاج الاضطرابات العصبية، وربما حتى مكافحة آثار الشيخوخة.

كيف تحدث عملية تكوين الخلايا العصبية الجديدة؟

تكوين الخلايا العصبية الجديدة (Neurogenesis) في دماغ الإنسان البالغ هو عملية بيولوجية معقدة تبدأ من الخلايا الجذعية العصبية، وهي خلايا غير متمايزة تمتلك القدرة على الانقسام والتطور إلى أنواع متعددة من الخلايا العصبية أو الداعمة. تتمركز هذه العملية بشكل رئيسي في منطقتين معروفتين داخل الدماغ: المنطقة تحت البطينية (Subventricular Zone) على جدار البطين الجانبي، والمنطقة تحت الحُصين (Subgranular Zone) في التلفيف المسنن (Dentate Gyrus) ضمن تركيب الحُصين.

تمر عملية التكوين العصبي البالغة بعدة مراحل متميزة:

  1. تكاثر الخلايا الجذعية
    تبدأ العملية بانقسام الخلايا الجذعية العصبية إلى خلايا جديدة. في هذه المرحلة، تكون الخلايا الناتجة ما تزال غير متمايزة، أي لم تتخذ بعد هوية وظيفية واضحة. تتم هذه الانقسامات في بيئة دقيقة التنظيم، يحكمها توازن بين الإشارات الكيميائية والإشارات الخلوية.

  2. تمايز الخلايا
    بعد الانقسام، تدخل بعض هذه الخلايا في مسار التمايز العصبي، حيث تتحول تدريجيًا إلى خلايا عصبية وظيفية، أو أحيانًا إلى خلايا دبقية (مثل الخلايا النجمية أو الدبقية قليلة التغصن). هذا التمايز يتأثر بعوامل نسخ محددة مثل NeuroD1 وMash1، والتي تحدد المصير الخلوي.

  3. الهجرة العصبية
    الخلايا العصبية الجديدة لا تبقى في موقع نشأتها، بل تهاجر إلى مناطق معينة ضمن الحُصين أو الجهاز الشمي (في بعض الأنواع الحيوانية). هذه الهجرة توجهها إشارات جزيئية مثل ريلين (Reelin) وسلايت (Slit)، والتي ترسم مسارات دقيقة لوصول الخلايا إلى أماكنها النهائية.

  4. الدمج والاشتباك المشبكي
    بمجرد وصول الخلايا العصبية إلى موقعها الجديد، تبدأ بتطوير التغصنات والمحاور العصبية وتكوين الاشتباكات المشبكية (Synapses) مع خلايا عصبية أخرى. نجاح هذه المرحلة يعني دمج الخلية الجديدة في الشبكة العصبية القائمة، مما يسمح لها بالمشاركة في المعالجة العصبية.

  5. البقاء أو التلاشي
    ليست كل الخلايا العصبية الجديدة مصيرها النجاة. في الواقع، نسبة كبيرة منها تموت خلال الأسابيع الأولى من ولادتها. فقط تلك التي تنجح في إقامة اتصالات مشبكية مستقرة وتتلقى تحفيزًا كهربائيًا كافيًا، تتمكن من البقاء. هذا يعني أن النشاط العصبي والتجارب الحسية والمعرفية تؤثر بشكل مباشر على مصير الخلايا الجديدة.

على المستوى الجزيئي، تتحكم عدة مسارات تنظيمية في هذه العملية، من أبرزها:

  • مسار Wnt/β-catenin: يعزز انقسام الخلايا الجذعية وتمايزها إلى خلايا عصبية.

  • عامل النمو العصبي المشتق من الدماغ (BDNF): يدعم بقاء الخلايا العصبية ونضجها المشبكي.

  • الهرمونات مثل الكورتيزول: قد تثبط العملية عند زيادتها المزمنة كما يحدث في حالات التوتر.

تكوين الخلايا العصبية الجديدة ليس مجرد ظاهرة بيولوجية خاملة، بل هو عملية مشروطة بدقة السياق البيئي والعصبي الذي يحدث فيه. إنها تتطلب بيئة دقيقة التنظيم، يمكن أن تتغير بشكل ديناميكي بحسب التجربة والخبرة.

العوامل التي تعزز أو تعيق تكوين الخلايا العصبية

تكوين الخلايا العصبية الجديدة في دماغ الإنسان البالغ لا يحدث بوتيرة ثابتة، بل يتأثر بمجموعة معقدة من العوامل البيئية، والسلوكية، والهرمونية، والوراثية. هذه العوامل لا تعمل بمعزل عن بعضها، بل تتفاعل عبر شبكات من الإشارات الجزيئية والخلوية، لتحدد ما إذا كانت الخلايا الجذعية العصبية ستدخل في مسار التمايز، أم ستظل خاملة، أو حتى تتجه إلى الزوال.

1. العوامل المحفزة لتكوين الخلايا العصبية

1-1. النشاط البدني المنتظم
التمارين الهوائية، كالجري أو المشي السريع، هي واحدة من أقوى المحفزات المعروفة للتكوين العصبي. النشاط البدني يزيد من تدفق الدم إلى الدماغ، ويعزز إطلاق عامل النمو العصبي المشتق من الدماغ (BDNF)، وهو بروتين يدعم بقاء الخلايا العصبية ونضجها وتمايزها. في النماذج الحيوانية، ارتبطت التمارين بزيادة ملحوظة في عدد الخلايا العصبية الجديدة في الحُصين.

1-2. التحفيز المعرفي والتعلم
التجارب المعرفية الجديدة، كالقراءة، حل المشكلات، أو تعلم لغة أو مهارة جديدة، تُنشّط دوائر الدماغ المعنية بالذاكرة والوظائف التنفيذية، مما يخلق بيئة عصبية غنية بالتغذية المشبكية. هذا النشاط يعزز دمج الخلايا العصبية الجديدة في الشبكات القائمة، ويزيد من فرص بقائها.

1-3. النظام الغذائي
بعض العناصر الغذائية ثبت أن لها تأثيرًا مباشرًا على تكوين الخلايا العصبية:

  • أحماض أوميغا 3 الدهنية، وخاصة DHA، تدعم بنية الغشاء الخلوي للعصبونات الجديدة.

  • الكركمين، المركب الفعال في الكركم، أظهر خصائص محفزة للتكوين العصبي ومضادة للالتهاب في دراسات حيوانية.

  • الفلافونويدات، الموجودة في التوت الداكن والكاكاو، تحفز تدفق الدم إلى الدماغ وتعزز نشاط BDNF.

1-4. النوم المنتظم والعميق
النوم، وخصوصًا مراحل النوم العميق (Slow-Wave Sleep) والنوم الحالم (REM)، مهم جدًا لإعادة التوازن العصبي. خلال النوم، يُعاد تنظيم الاتصال المشبكي، ويزداد إفراز بعض العوامل التي تهيئ البيئة المناسبة لنمو الخلايا العصبية الجديدة.

1-5. التفاعل الاجتماعي الصحي
العزلة الاجتماعية وغياب التحفيز العاطفي يرتبطان بانخفاض معدلات التكوين العصبي. في المقابل، العلاقات الاجتماعية الغنية والداعمة تعزز إنتاج العوامل العصبية المُحفزة، وتحد من التأثيرات السلبية للتوتر.

2. العوامل المثبطة لتكوين الخلايا العصبية

2-1. التوتر المزمن وارتفاع الكورتيزول
التوتر النفسي المزمن يؤدي إلى ارتفاع مستمر في مستويات هرمون الكورتيزول، والذي له تأثير مثبط مباشر على الخلايا الجذعية العصبية. كما يُضعف إفراز BDNF ويعزز الالتهاب العصبي، ما يؤدي إلى انخفاض واضح في التكوين العصبي وضمور الحُصين بمرور الوقت.

2-2. قلة النوم أو اضطراب نمطه
الحرمان من النوم أو تكرار الاستيقاظ الليلي يؤثر سلبًا على البيئة البيوكيميائية للدماغ. نقص النوم يرتبط بزيادة الالتهابات العصبية، واختلال التوازن بين النواقل العصبية (كالدوبامين والسيروتونين)، مما يقلل من تكوين الخلايا العصبية الجديدة.

2-3. الشيخوخة
مع التقدم في العمر، تنخفض قدرة الدماغ على تجديد الخلايا العصبية. هذا التراجع مرتبط بانخفاض أعداد الخلايا الجذعية العصبية، وتراجع حساسية هذه الخلايا للإشارات المحفزة، إضافة إلى زيادة مستوى الجزيئات الالتهابية التي تعيق التمايز العصبي.

2-4. بعض المواد الكيميائية والأدوية

  • العقاقير الكيماوية المضادة للسرطان قد تثبط تكوين الخلايا العصبية نتيجة تأثيرها على الانقسام الخلوي.

  • الكحول المزمن يرتبط بتلف بنيوي في الحُصين وتثبيط نمو الخلايا العصبية.

  • بعض الأدوية النفسية، خاصة تلك التي تعيق امتصاص السيروتونين أو الدوبامين بشكل مزمن، قد تؤثر على البيئة العصبية بطريقة تقلل من فرص التكوين العصبي، رغم أن بعضها الآخر (مثل مضادات الاكتئاب من نوع SSRIs) قد يحفز التكوين العصبي بمرور الوقت.

التكوين العصبي هو عملية حساسة ومتغيرة، تتفاعل مع ظروف الفرد اليومية والمعيشية. البيئة النفسية، السلوكية، والجسدية تترك بصمة حقيقية على قدرة الدماغ على تجديد نفسه، وتلعب دورًا محوريًا في تشكيل المسار العصبي للإنسان على المدى البعيد.

الأهمية الوظيفية لتكوين الخلايا العصبية الجديدة

لا تُعدّ عملية تكوين الخلايا العصبية الجديدة مجرد تجدد بيولوجي صامت داخل الدماغ، بل هي ظاهرة ذات أثر عميق على الوظيفة العقلية والسلوكية. إن قدرة الدماغ على إنتاج خلايا عصبية جديدة ودمجها في الشبكات العصبية القائمة تُترجم إلى تحولات واضحة في الإدراك، التعلم، الحالة النفسية، والقدرة على التكيف مع الضغوط. هنا تتجلّى الأهمية الحيوية لهذه الظاهرة، خصوصًا في منطقة الحُصين، حيث يلتقي علم الأعصاب بالوظيفة المعرفية والانفعالية.

1. التكوين العصبي والذاكرة

الحُصين هو مركز رئيسي لتشكيل الذاكرة العرضية (episodic memory) والربط بين السياقات الزمانية والمكانية. التجارب المخبرية أظهرت أن زيادة تكوين الخلايا العصبية في الحُصين تُحسّن القدرة على:

  • تمييز الأنماط (Pattern Separation): أي القدرة على التمييز بين تجارب متشابهة أو مواقف متقاربة. الخلايا العصبية الجديدة في التلفيف المسنن تلعب دورًا فاعلًا في خلق تمثيلات عصبية أكثر دقة للمعلومات البيئية.

  • التعلم المكاني: كما في مهام المتاهات في النماذج الحيوانية، حيث تتفوق الكائنات ذات المعدلات الأعلى من التكوين العصبي في أداء المهام التي تتطلب التنقل وتحديد الاتجاه.

الآليات المقترحة لذلك تشمل قدرة الخلايا العصبية الجديدة على الاندماج في دوائر عصبية بطريقة مرنة واستجابتهم المتزايدة للمدخلات الجديدة، مما يتيح بناء شبكات تمثيل جديدة دون التشويش على الشبكات السابقة.

2. التكوين العصبي والمزاج

ثمة علاقة قوية بين التكوين العصبي والصحة النفسية، خصوصًا في ما يتعلق بالاكتئاب والقلق. في نماذج الاكتئاب المزمن، يُلاحظ انخفاض ملحوظ في عدد الخلايا العصبية الجديدة في الحُصين. وهذا الانخفاض يرتبط بضمور حجمه وتراجع مرونته الوظيفية.

المثير للاهتمام هو أن بعض مضادات الاكتئاب، مثل مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية (SSRIs)، لا تُظهر أثرًا علاجيًا مباشرًا إلا بعد أسابيع من الاستخدام، وهي نفس المدة التي يستغرقها تكوين خلايا عصبية جديدة ونضجها. الدراسات التجريبية بينت أنه عند تثبيط التكوين العصبي دوائيًا أو وراثيًا، تفقد هذه الأدوية فعاليتها السلوكية في نماذج الاكتئاب، ما يشير إلى أن التكوين العصبي ليس فقط متأثرًا بالحالة النفسية، بل قد يكون ضروريًا لتحسينها.

3. التكوين العصبي والمرونة العصبية

المرونة العصبية (Neuroplasticity) هي قدرة الدماغ على التكيف مع التغيرات البيئية والتجريبية، سواء على مستوى التعلم أو التعافي من الصدمات. وجود خلايا عصبية جديدة يمنح الدماغ فرصة لتعديل شبكاته وخلق روابط جديدة، مما يُحسّن التكيف مع المعلومات أو الظروف المتغيرة.

في حالات الصدمة النفسية أو العصبية، يُلاحظ أن الأفراد الذين يحتفظون بمستويات أعلى من التكوين العصبي يكونون أكثر قدرة على تجاوز الآثار طويلة الأمد لهذه الصدمات، سواء على مستوى الوظيفة المعرفية أو التكيف الانفعالي.

4. الأثر الوقائي في الاضطرابات العصبية

تكوين الخلايا العصبية قد يكون أحد الخطوط الدفاعية ضد الأمراض التنكسية كمرض ألزهايمر وباركنسون. في النماذج الحيوانية، تحفيز التكوين العصبي أدى إلى تحسينات في الذاكرة وتقليل تراكم البروتينات السامة. بعض الأبحاث الجارية تستكشف إمكانية تحفيز الخلايا الجذعية العصبية داخليًا أو زرعها كعلاج مستقبلي لهذه الحالات. كما أن الخلايا العصبية الجديدة تُنتج غالبًا في بيئة من التفاعل مع الخلايا الدبقية، ما يعزز توازنًا بيئويًا يُقاوم الالتهاب العصبي المزمن، وهو أحد العوامل المشتركة في كثير من الاضطرابات العصبية والنفسية. بالتالي، فإن تكوين الخلايا العصبية لا يمثل مجرد ظاهرة جانبية، بل هو عامل فاعل في تشكيل الصحة النفسية والمعرفية، وفي تمكين الدماغ من الدفاع عن نفسه ضد عوامل التدهور والتلف. إنه خط إنتاج داخلي يجمع بين القدرة على التجديد، والمرونة، والدفاع.

كم خلية عصبية جديدة يولدها الدماغ البشري يوميًا؟ ولماذا تهمنا هذه الأرقام؟

رغم التحديات التقنية في قياس التكوين العصبي لدى البشر، تشير إحدى الدراسات الرائدة المنشورة في مجلة Cell عام 2013 إلى أن الحُصين البشري يُنتج حوالي 700 خلية عصبية جديدة يوميًا، أي ما يقارب ربع مليون خلية سنويًا. وبحلول سن الخمسين، يكون ما يقارب ثلث الخلايا العصبية في الحُصين قد نشأ بعد الولادة، مما يدل على استمرار النشاط العصبي التجديدي في الدماغ حتى منتصف العمر على الأقل.

لكن لماذا نُعير هذه الأرقام كل هذا الاهتمام؟ لأن منطقة الحُصين، وهي مركز الذاكرة والتعلم في الدماغ، تتأثر بشدة بحالات الاكتئاب المزمن، التوتر، والشيخوخة — وكلها عوامل تقلّل من معدل التكوين العصبي.

في السعودية، تشير نتائج المسح الوطني للصحة النفسية الذي أجره المركز الوطني لتعزيز الصحة النفسية إلى أن أكثر من 20٪ من السعوديين يعانون من ارتفاع خطورة الاصابة بالاكتئاب واضطرابات القلق. ومع ارتفاع معدلات الشيخوخة عالميًا، تُقدّر منظمة الصحة العالمية أن عدد من تجاوزوا سن الستين سيتضاعف بحلول عام 2050 ليصل إلى 2.1 مليار شخص.

هذه الإحصاءات تضع التكوين العصبي في قلب نقاش الصحة العامة:

  • كيف يمكن تعزيز إنتاج الخلايا العصبية الجديدة لدعم الصحة النفسية؟

  • وهل يمكن تبنّي سياسات وطنية تُشجّع على النشاط البدني، والتعلم مدى الحياة، والنوم الصحي، كأدوات لتعزيز المرونة العصبية؟

الإجابة العلمية اليوم تميل إلى "نعم"، وهو ما يجعل من فهم هذه العملية البيولوجية أولوية تتجاوز المختبر إلى السياسات التعليمية والصحية والاجتماعية.

من التكوين العصبي إلى التربية الدماغية

حين نعلم أن دماغ الإنسان يُنتج مئات الخلايا العصبية الجديدة يوميًا، وأن هذه العملية تتأثر بما نأكله، وكيف نتحرك، وبمقدار نومنا وتواصلنا مع الآخرين، يصبح واضحًا أن الصحة الدماغية ليست قدرًا بيولوجيًا صامتًا، بل نتيجة مباشرة لأسلوب الحياة والمعرفة التي نملكها عن أدمغتنا. لكن المشكلة لا تكمن في القدرات العصبية ذاتها، بل في غياب التربية الدماغية من ثقافتنا اليومية. قلة من الناس تدرك أن قراءة كتاب، أو ممارسة رياضة، أو تقليل التوتر ليست فقط عادات مفيدة، بل أعمال بيولوجية عميقة تعيد تشكيل الدماغ حرفيًا، وتبني شبكات عصبية جديدة. هذه المعرفة يجب ألا تظل حكرًا على المختبرات والأبحاث الأكاديمية، بل تتحول إلى وعي مجتمعي واسع يُدرّس في المدارس، ويُفعّل في السياسات الصحية، ويُوظّف في العلاج النفسي وإعادة التأهيل. إن الاستثمار في "التكوين العصبي" لا يبدأ من غرفة العمليات ولا من معامل الأدوية، بل من البيت، والمدرسة، والحي. وكل شخص لديه القدرة على أن يصبح حارسًا لنمو دماغه، أو عدوًا خفيًا له. وهنا، يتحول العلم إلى دعوة: لنُربّي أدمغتنا، لا فقط أجسادنا.